متاع الغرور/ صورية إبراهيم مروشي

من طرف **zaid almhana** السبت مايو 21, 2011 6:23 pm

متاع الغرور/ صورية إبراهيم مروشي

على أرض منبطحة مترامية الأطراف لا يرى الناظر إليها على إمتداد بصره جبلاً أو هضبة أو إرتفاعاً وإنخفاضاً، ولا يلمح على سطحها الذي لا نهاية له شجرة أو حجرة أو بناية، اجتمع خلق كثير يعدون بالآلاف، لا يظهر منهم لفرط كثرتهم وتزاحمهم غير رؤوس متراصة لرجال ونساء، لا تقترب منهم حتى تدرك من العرق المتصبب على وجوههم والتعب البادي عليهم، وما تقرؤه في أعينهم من خوف ممزوج بالقلق والحيرة، أنهم ينتظرون شيئاً ما، ويترقبون أمراً هو من الأهمية، بحيث قد يجلب لهم السعادة الخالدة، وقد يدفعهم إلى الشقاء الأبدي.
كان الجميع جلوساً في إكتظاظ لم يعرف له مثيل، مطأطئي الرؤوس لأ يأبه أحد بأمر أحد آخر، ولا ينتبه الجليس إلى من حوله، إنما الأذهان شاردة والعقول غارقة في تفكير عميق، والقلوب منصرفة إلى ذلك الحدث المنتظر، والنفوس بين إقبال وإدبار، وفرح وحزن، وإرتياح وإضطراب، لما قد يأتي به هذا اليوم المرتقب.
وفجأة وقف الجميع وقفة واحدة، واشرأبت الأعناق، وشخصت الأبصار حين لمع قبالة ذلك المجلس الضخم ضوء أشبه بإشراق الشمس في يوم جميل، لم يلبث أن إزداد إشراقاً ليضيء المكان كله، ظهرت على إثره ملكة لم يُر لجمالها وحسنها مثيلٌ... تقدمت بخطى ملكية راقية، ترتدي أفخر الثياب، يجلل شعرها الذهبي تاج مرصع بالآلئ والأحجار الكريمة، لم يعرف أولئك الحضور وجوداً لها في حياتهم المديدة.
كانت الملكة – دنيا – تبتسم إبتسامة ساحرة، وهي تقف في غرور وكبرياء أمام ذلك الجمع الغفير، وحول قدميها خدم وحشم، وجوارٍ وغلمان يخدمونها ويتذللون لها؛ لترضى عنهم.
حارت العقول لمرأى هذا الجمال الخلاب، وفغرت الأفواه أمام هذا الحسن الأخاذ، وأيقنت تلك العيون الشاخصة إلى الملكة الحسناء أن هيأت بين إشراقة الشمس وإطلالة نور القمر من هذه التي أطلت عليهم بموكبها الفخم، فأذهلتهم عن كل أمر سواها.
انحنى الجمع الغفير للملكة إجلالاً وتعظيماً، ولم يعتدلوا في وقفتهم حتى أومأت لهم بذلك، فوقفوا وقد بدا الطمع واضحاً في أعينهم، وسال اللعاب من أفواههم، ينتظرون أن تغدق عليهم المنح والعطايا، وتحقق أحلامهم بكرمها وسخاء يدها... كيف لا.. وهي ملكة الدنيا.. بيدها الأمر والنهي، والعطاء والمنع!!...
جلست الملكة على كرسي عرشها تنظر بعينيا الساحرتين إلى شعبها الوفي وعبيدها المخلصين، وبعد صمت بدا لأولئك الحضور دهراً، رفعت سبابتها وأشارت إلى أحدهم، قائلة: "أنت!!.."..
عرف المشار إليه أنها تعنيه، فأقبل مهرولاً يتعثر في مشيته لشدة فرحته أنّه أوّل المدعوين للوقوف بين يدي ملكة الدنيا، وما إن مثل بين يديها حتى سجد تحت قدميها يقبلهما ويبللهما بدموع الفرحة التي ملكت عليه نفسه، ففاضت لها عينه... ولم ينهض إلا والخدم يرفعونه عن قدمي الملكة فوقف وقفة العبد أمام ولي نعمته... نظرت إليه نظرة إستعلاء، ثمّ قالت:
"أنت عاشق حسني وجمالي، وأسير سحري ودلالي، قضيت عمرك تخدمني وتعمل على إرضائي، وهأنذا أكافئك على طول إنتظارك وجميل وفائك... سأجعلك من المقربين عندي والمؤثرين لدي، فأذيقك من لذاتي ومتعي ما يسحر لبك ويذهل عقلك... اذهب، فأنت السعيد السعيد..".
فخرّ العبد ساجداً يعيد الشكر، ويقبل الأقدام مردداً:
"أنت آلهتنا ولن نكون لغيرك عبيداً!!.."..
ابتسمت إبتسامة ما كرة، وقالت:
"أقبل أيها السلطان!!.."..
فأقبل فرحاً مستبشراً، إذ دعته إليها، وبعد أن أدى واجب الطاعة والولاء قالت:
"أعرف أنك تعشق كرسي السلطان، وتهفو إلى طريق المجد... سأمنحه لك، فأنت الآن سلطان مجيد على أرض ليس لها حدود، افعل ما شئت فشعبك لك عبيد... اذهب فعرشك لن يزول وسلطانك لن يبيد..".
فخرّ السلطان ساجداً يعيد الشكر ويقبل الأقدام، ويردد:
"أنت آلهتنا ولن نكون لغيرك عبيداً!!.."..
جالت – دنيا – بعينيها في الواقفين، وأومأت إلى أحدهم أن أنت...!! فأقبل مسرع الخطا، جثا أمامها يتمسح بثيابها يتبرك بها، فدفعته عنها، وقالت:
"أنت عاشق درهمي وديناري، وأنت المغرم بالولد، سأمنحك من المال ما يملأ عينك ويرفع مقامك وأرزقك من الولد ما يروي غرورك ويقوي سؤددك... فاذهب أنت السعيد السعيد.."..
فخرّ العبد ساجداً يعيد الشكر، ويقبل الأقدام ويردد:
"أنت آلهتنا ولن نكون لغيرك عبيداً!!.."..
بحثت عن الرابع بين الجلوس هو أم بين الوقوف، فإذا هو واقف يترقب، وما إن وجهت له سهام عينيها حتى أقبل يتغنى بالملكة ويشيد بجمالها وكرمها، قالت:
"ألست تحب أن يذيع صيتك ويخلد اسمك ويصبح ذكرك على كل لسان؟... سأعطيك ما تريد وأحقق لك ما تحب، إن ذكرك الآن قد تعدى الحدود لا تقف أمام شهرتك الحواجز ولا السدود..، اذهب فأنت السعيد السعيد..".
فخرّ العبد ساجداً يعيد الشكر ويقبل الأقدام وهو يردد:
"أنت آلهتنا ولن نكون لغيرك عبيداً!!.."..
وقفت الملكة وفي وقفتها إيذان بإنتهاء اليوم الموعود، وحيَّت شعبها تحية الحب الودود، وقالت:
"يا عبادي المخلصين، يا شعبي السعيد... إنّ الحياة أيام معدودة وتنقضي، فاجعلوها كلها أفراحاً وأعياداً، لا تتبعوا عقولكم، ولا تستمعوا لأصوات ضمائركم، واتبعوا ما تشتهي أنفسكم، وتلذّ في أعينكم، فمن مات على لذة مات شهيداً!!... انتشروا في الأرض، واستمتعوا بما هو عليها، فإنني أعطيتكم ما وعدتكم، وسأظل أعطي ما دمتم لي أوفياء... إنّه وعد ولست أخلف وعودي... هيا انصرفوا...!!".
وهمّوا بالإنصراف حين دوّى في الأسماع صوت تردد صداه في الآفاق:
"أيها المغفلون!!... كيف انخدعتم بكلام الملكة المعسول وعطاياها الزائلة؟!... كيف رضيتم العيش من أجل اللذة والمتعة والسعي لتحقيق أحلام دنيوية واهية ومهمتكم في الحياة اللذة والمتعة والسعي لتحقيق أحلام دنيوية واهية ومهمتكم في الحياة أعظم وأجلّ؟ إنكم لستم حيوانات، بل بشر، كرمكم الله بالعقل، واستخلفكم في الأرض؛ لتعمروها بالأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية، ولتبنوها على أسس متينة وقواعد راسخة؛ ليرتفع البنيان جيلاً بعد جيل... إنكم وجدتم للبناء لا الهدم، والإصلاح لا الإفساد و – دنيا – تدعوكم لنقيض ما خلقتم له وفيه هلاككم في دنياكم وأخراكم... فأفيقوا قبل فوات الأوان، فتشقوا شقاء أبديّاً.."..
ارتفعت صرخات الإستنكار لهذا الكلام الذي غضب له جمع غفير، ولم يدرك فحواه إلا فئة قليلة منهم، لم ينخدعوا بوعود الملكة، ولم يغتروا بما دعتهم إليه، وخرجوا عن ذلك الجمع وساروا في طريق آخر أكثر وضوحاً يتصرفون بما يرضي عقولهم وضمائرهم ويوافق فطرتهم، ويمنحهم إطمئنان قلوبهم وسكينة نفوسهم، يسهمون في إكمال البناء الشامخ الذي تداول أجدادهم الحكماء على وضع لمساتهم عليه، ويخلدون رحيلهم بما تركوه من صالح أعمالهم وجميل أقوالهم وكريم أخلاقهم، وإنّهم لماضون فيه غير نادمين أو ناقمين، فهنئوا في دنياهم، وسعدوا في أخراهم، في حين سارت جماهير عظيمة في طريق اللهو يبحثون عن المتع، ويستمتعون بالذات، ويصرفون أيامهم ولياليهم فيما يجلب لهم السعادة، ويشعرهم بالرضى والسرور على حياتهم.
ومرّت سنوات تتبعها السنوات، وإذا بضيف ثقيل يحلّ بالديار يزرع الخوف والرعب في النفوس، وإذا بما بين الأيدي من مال وولد وجاه وسلطان وشهرة وخلود، وما تذوقته القلوب من متع وأفراح... إذا بكل شيء يبدو سراباً أمام هذا الضيف الذي جاء فجأة؛ ليقض مضاجع ويهدم اللذات ويفرق الجماعات... إنّه الموت...
بالساحة الكبيرة نفسها اجتمع خلق كثير يدعون ملكتهم للوقوف عند حاجتهم، ظهرت بنفس السحر والجمال، وسألتهم من فوق كرسي عرشها الفخم:
"ما بكم تبكون وتتصايحون؟... ما حاجتكم؟!!.."..
فصرخت تلك الحناجر صرخات الندم والحسرة:
"أغيثينا أيتها الملكة العظيمة... لقد عملنا بقولك وسرنا في طريقك نتذوق متعك ونستمتع بلذائد العيش على أرضك، ولم نستفق إلا بعد أن ولى الشباب وغزتنا الشيخوخة بضعفها وآلامها، وإذا الموت يطلبنا، وحفرة القبر تنادينا، ونظرنا حولنا هل أعددنا العدة لرحلة الآخرة وهيأنا الزاد لما بعد الموت؟!... فإذا الحقيقة المرة تصفعنا: لا شيء بين أيدينا غير عمر ولى كأن لم يكن، وذنوب يخيفنا وزنها حين نقف بين يدي الخالق الجبار... أنجدينا يا ملكتنا، ألم تعدينا بعطاياك التي لا تنفد؟!!... فأين وعودك، وأين عهودك؟!.."..
قهقهت الملكة "دنيا" بأعلى صوتها، ثمّ قالت وهي تتضاحك بخبث:
"يا لكم من أبله وبليد!!... ألم تعرفوني بعد؟!... إنني "الدنيا" أعد ولا أفي!!... إنني "متاع الغرور" وعدتكم وما أعد إلا غروراً، ومغفل منكم من صَدّق وعدي وسار في دربي... انصرفوا فحاجتكم ليست عندي، واسألوا من أنا وأنتم من خلقه وتحت رحمته".
وانصرفت الملكة عن هؤلاء وتركتهم يحصدون الندم ويبكون بدل الدموع دماً، وتوجهت إلى الشباب تعدهم وتمنيهم، تعطي لهذا المال والولد، وتمنح الآخر السلطان والمجد، وتهدي الثالث الشهرة والخلود، وتغرق أثيرها في متعها ولذاتها... سارت وحولها الخدم والجواري يخدمونها والشباب وراءها هائمون بها، يتبعون خطواتها، ويرددون:
"أنت آلهتنا ولن نكون لغيرك عبيداً!!.."..
المصدر: كتاب الأرض الجريحة (قصص قصيرة)